باستخدامك موقع شايف نت تكون موافق على سياسة الخصوصية الخاصة بالموقع
أهلا بكم في سيول عاصمة كوريا الجنوبية: مدينة المستقبل التي لا تنام
20/09/2020

تتحرك عاصمة كوريا الجنوبية بسرعة تنافس أغنى وأقوى اقتصادات المدن الأخرى عالمياً، فهناك عبارة شهيرة في سيول هي "بالي بالي!"، والتي تعني "بسرعة بسرعة!"، إنها عبارة تختصر طريقة الحياة في تلك العاصمة. هناك الكثير من الأشخاص الذين يعتقدون أن طوكيو أو نيويورك هي أكثر مدن العالم نشاطاً، لكن سيول تتفوق عليهما بسهولة. تمتد ساعات العمل لتصل إلى الـ 10 مساءً، لكن الدافع وراء العمل يأتي بشكل رئيس من طرف الكوريين أنفسهم، فبعيداً عن شوارع العاصمة الرئيسة، ونزولاً إلى الأسواق، ستلاحظ أنها تنبض بالحياة والفوضى.

لا تعتقد أن سكان كوريا المشغولين دائماً ليسوا لطفاء، بل على العكس تماماً، فهم يسعون دائماً لتقديم العون للغرباء. تقول (روتشيكا ساهاي)، وهي أسترالية انتقلت إلى سيول منذ 7 سنوات: "بإمكانك اعتبار سكان سيول بمثابة "إيطاليي الشرق"، وهم فخورون بهذا الكرم واللطف، مستعدون دائماً لمساعدتك وخوض الجدالات العقيمة، وهم لطفاء جداً وليسوا باردين ولا يخشون من إظهار مشاعرهم".

هناك طاقة إبداعية تنبض في تلك المدينة، وهي التي تدفع عجلة الإبداع، سواءً في مجال الموسيقى أو التكنولوجيا أو الأزياء، وهي التي تسهم في جعل هذه المدينة إحدى أقوى الاقتصادات العالمية. يقول الأمريكي (تايلور إيفانز) الذي شارك سابقاً في برنامج تبادل طلابي مع جامعة كوكمين في سيول: "إن المشاريع الصغيرة في هذه المدينة تتنافس لجذب الزبائن، وهي بالتالي تخلق نوافذاً إبداعية وبعيدة كل البعد عن التقليد".

بالفعل، غالباً ما تقوم الشركات -الصغيرة والكبيرة- بابتكار أفكار جديدة لجذب الزبائن، من مقهى يتيح لك مشاهدة برامجك المفضلة عبر شاشة إسقاط على الحائط، إلى صالون للعناية بالشعر يحوي أيضاً متجراً للشاي، وصولاً إلى بارٍ يتيح للزبائن ممارسة رياضة البولينغ، كل يوم مغامرة جديدة، هذا ما قاله (إيفانز).

تبرز طموحات هذه المدينة من خلال السرعة التي تتقدم بها نحو تحقيق مستقبلٍ متطورٍ تكنولوجياً وبنية تحتية ريادية، بالإضافة طبعاً إلى اهتمامها المطلق بتوفير حياة ذات جودة مرتفعة لمواطنيها. الأعمال والتكنولوجيا والبنية التحتية للمواصلات، تلك هي الأعمدة الثلاث التي بنت سيول نجاحها عليها. ومؤخراً، أصبحت التنمية المستدامة إحدى الأمور الأساسية التي تركز عليها المدينة في استجابة لتلوث الهواء. وهكذا، أصبحت هذه المدينة المتقدمة تكنولوجياً مدينة نظيفة وذكية أيضاً. وفقاً لأرقام تعود للعام 2016، فسيول تحتل المرتبة السابعة عالمياً من ناحية جودة الحياة، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي 903 مليار دولار وفقاً لإحصائية من عام 2015، بالتالي يعادل اقتصاد المدينة نحو 67% من الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية بأكملها.

يُعتبر نظام المواصلات العامة في سيوب أحد الأعمدة الرئيسة وراء تقدم البلاد تكنولوجياً، فيرتاد نحو 7 مليون شخص مترو الأنفاق يومياً، وهناك 9 خطوط تغطي ما مجموعه 327 كليومتر يعمل على تنظيمها 4 أنظمة تشغيل، تشكل جميعها نظاماً مواصلات مدمج يشمل السكك الحديدية والقطارات، بالإضافة إلى أسطول من الباصات (نحو 120 ألف)، والتي من المفترض أن تعمل جميعها على الطاقة الكهربائية بحلول العام 2020. لا يقتصر الأمر على المواصلات الأرضية، فهناك مطار إنتشون -في مدينة إنتشون الملاصقة للعاصمة سيول- والذي وصفته قناة CNN الأمريكية بـ "المطار الذي يصعب عليك مغادرته"، حيث صُنف المطار باعتباره أفضل مطار في آسيا والمحيط الهادئ، والذي يسافر عبره أكثر من مليوني مسافر في العام.

تلك هي ثقافة الـ"بالي بالي"، أي إنجاز الأشياء بسرعة. لكن ذلك لا يعني أن مواطني كوريا الجنوبية لا ينعمون بأوقات للمتعة، على الرغم من العمل الشاق بالنسبة لباقي سكان العالم. فكما قلنا سابقاً، تستثمر سيول في كل شيء يحسّن نوعية الحياة بالنسبة للمواطنين. لعلّ أشهر الأمثلة في مجال الترفيه هو تشيونغي تشون، وهو عبارة عن فضاء ومتنزه تبلغ مساحته 10.9 كيلومتر قرب مجرى مائي في حيّ جونغنو. اضطرت الحكومة حينها إلى إزالة طريق سريع فوق المجرى، وبلغت تكلفة المشروع نحو 900 مليون دولار أمريكي، ما أدى إلى سخط عام تجاه هذا الإهدار.

عندما اكتمل بناء المشروع، أصبح أكثر الأماكن المحببة بالنسبة للكوريين والسياح على حد سواء. هناك أيضاً مشروع Seollou 7017، الذي يوصف بحديقة سيول السماوية، وهو عبارة عن متنزه خطي مرتفع بُني فوق طريق سريع. بلغت كلفة المشروع 50 مليون دولار، وهو عبارة عن طريق يبلغ طوله كيلومتر على جوانبه تبرز أشجار خضراء رائعة، مشابه نوعاً ما لطريق "هاي لاين" في نيويورك الأمريكية.

كيف استطاعت كوريا الجنوبية تحقيق هذا النجاح الاقتصادي؟

ترجع معظم الدراسات هذا التحول في بنية كوريا الجنوبية إلى سياسة الإصلاحات الهادفة إلى فتح البلاد على الأسواق الأجنبية. وبالفعل، تُعد سياسات كوريا الجنوبية الرامية إلى التصدير إحدى العوامل المهمة في نجاح هذا البلاد، فهي اليوم من أكثر 10 دولة مصدرة في العالم، وارتفعت نسبة الناتج المحلي الإجمالي من الصادرات في كوريا إلى 56.3 بالمئة عام 2012، بعدما كانت 25.9 بالمئة فقط عام 1995.

هناك عواملٌ أخرى بالطبع، كتحسين بيئة الأعمال والسياسات الرامية إلى تحفيز الاستثمار في الإبداع. إن بيئة العمل القوية تعمل على نمو السوق المحلية وتجذب اهتمام المستثمرين الأجانب. وفقاً لتقييمات البنك الدولي، تتربع كوريا الجنوبية في المرتبة الرابعة وفقاً لمؤشر سهولة ممارسة الأعمال عام 2018، بينما صُنفت الولايات المتحدة في المرتبة السادسة، واليابان في المرتبة الـ 34.

تهيمن كوريا الجنوبية على مجال تسهيل بدء الأعمال التجارية وإبرام المعاهدات. جميع تلك الأمور تسهم في تشجيع الاستثمار والإنتاج والتواصل، وبالتالي فهي تسهم في النمو الاقتصادي. بالإضافة لما سبق، صبّت كوريا الجنوبية المزيد من الاهتمام على عوامل رئيسة لترسيخ التنافس في مجال التصدير وإشعال شرارة التفوق الاقتصادي الملحوظ للبلاد على مر العقود الماضية.

حالياً، تنفق كوريا الجنوبية الحصة الأكبر من ناتجها المحلي الإجمالي على الأبحاث والتنمية، وهي بذلك تتفوق على الولايات المتحدة واليابان، وهما اثنتان من أكثر الدول ريادة في مجال الإبداع بناءً على كثافة البحث والتطوير في كلّ منهما. بين عامي 1996 و2015، ازدادت كثافة البحث والتطوير لدى كوريا الجنوبية بمعدل 88.5 بالمئة (من 2.24 بالمئة عام 1996 إلى 4.23 بالمئة عام 2015)، بينما بلغت النسبة ذاتها لدى الولايات المتحدة مثلاً 14.4 بالمئة (من 2.44 بالمئة عام 1996 إلى 2.79 بالمئة عام 2015).

منذ عدة عقودٍ لا أكثر، تحوّلت العاصمة من مدينة أفقرتها الحرب الكورية إلى أحدى أكثر الأماكن ازدهاراً في العالم، بل أصبحت واحة تكنولوجية. وفي الأعوام القليلة الماضية، بدأ الاهتمام العالمي يتركز على الثقافة الكورية أيضاً، فانتشرت موسيقى الـ K–Pop والمسلسلات التلفزيونية الدرامية بالإضافة إلى الأعمال السينمائية التي باتت تُعرض في مهرجانات العالم. خلال تاريخها، كانت سيول تعيش في ظل كلّ من الصين واليابان، وهما دولتان ذات تعداد سكاني أكبر، واستعمرتا شبه الجزيرة الكورية على مر التاريخ، لذا يبدو أن هذا الانسجام الثقافي قد أعطى سكان سيول ثقة جديدة بأنفسهم، وبمدينتهم أيضاً.

بالمقارنة مع بكين أو طوكيو، قد تبدو سيول مكاناً غريباً، فهي من الأساس بُنيت من الحاجة! أي أنها بُنيت لتكون عملية أولاً، وليس لتكون عاصمة جميلة. فخلال الفترة التي تلت الحرب، شهدت العاصمة تدفق الكوريين من الأرياف، واليوم، تأوي المدينة نحو 10 ملايين شخص. منذ عام 1960 وحتى عام 1990، ازداد عدد السكان في سيول بنحو 300 ألف شخص سنوياً. لذا بدأت العاصمة تهتم بعدد القادمين الجدد وإسكانهم، بغض النظر عن الطريقة التي توفر لهم فيها المسكن والبيئة المناسبة.

إن هذا الانتقال من إحدى دول العالم الثالث الفقيرة إلى أحد الاقتصادات المزدهرة القائمة على التصدير، بالإضافة إلى الثروة الهائلة والنمو السكاني الكبير والتوسع الثقافي، يعني أن سيول ليست ظاهرة غريبة بحد ذاتها فحسب، بل هي نموذج لمدن أخرى في الصين والهند والبرازيل تعاني أيضاً من ذات المشاكل التي عانت منها سيول. بالمناسبة، لم تستطع كوريا الجنوبية تجاوز جارتها الشمالية من الناحية الاقتصادية حتى سبعينيات القرن الماضي.

تحدث (ميونغو كانغ)، وهو مخطط معماري حضري من جامعة سيول، لمجلة "سميثسونيان" عن رغبته في منح ما تعلمته بلاده للأجيال القادمة من المسؤولين عن تخطيط المدن وإعمارها، بحيث يتمكن البشر من تطوير مدنهم بسرعة في أفريقيا وآسيا وأميريكا الجنوبية والشرق الأوسط. قال (كانغ): "أصبح هؤلاء المعماريون الحضريون منسيين منذ عقود، يجب علينا اعتبارهم أبطالاً وطنيين. ساهموا في انتشال هذه المدينة من الأنقاض، ونتمنى أن يتعلم العالم بأسره منهم".

اليوم، بعد أن أثبتت كوريا الجنوبية قدرتها على القيام من أنقاض الحرب ودخول مجال الدول العظمى، ظهر اتجاه وتغير واضح في القيم، فانتقلت المدينة اليوم من العملية الخالصة -التي فرضتها الضرورة- إلى الشكل والحيوية والجمال. حصلت سيول على لقب عاصمة التصميم العالمية عام 2010 بفضل تحالف من المصممين الصناعيين، وأصبحت اليوم مقصد الكثير من المعماريين الدوليين الذين يسعون لتطبيق مشاريعهم الجريئة على أرض الواقع. وبدا هذا الأمر واضحاً عندما استلم العمدة السابق (أوه سي هون)، والذي ركز بشدة على تطوير وتحديث منظر المدينة، ولو على حساب الرعاية الصحية والبنية التحتية، وفقاً لمن ينتقد سياساته طبعاً.

ما يجعل سيول اليوم مكاناً ديناميكياً ومدهشاً هو ما حققته هذه المدينة من إنجازات على مختلف المستويات، فالطموحات المعمارية الجديدة للمدينة تثبت ذلك، بل قد تصطدم هذه الطموحات في بعض الأحيان مع الانتظام المبتذل الذي عاشته في الماضي. بالإضافة لذلك، يُعتبر سكان سيول من أكثر الناس الذين يتكيفون مع التكنولوجيا الجديدة في العالم، تحديداً أجهزة الموبايلات والحاسب، ويسهل عليهم ذلك بفضل الوصول السريع والمتاح لجميع المعلومات على الشبكة. ووفقاً للإحصائيات، فكوريا الجنوبية هي المنتج رقم واحد 1 لأجهزة الهواتف الذكية وشاشات العرض وأشباه المُوصِلات وبناء السفن، وهي تصدر الآلات والسيارات وأشباه الموصلات والمنتجات البترولية بشكل رئيس. وتربعت على المرتبة الأولى عالمياً لـ 6 سنوات متتالية (منذ عام 2014 حتى عام 2019) وفقاً لمؤشر بلومبيرغ للابتكار.

المدينة التي لا تنام

إن هذا التناقض بين الماضي والحاضر، القديم والجديد، يبرز بشدة في حي دونغ دايمون، وهو حي تجاري في شمال المدينة يحوي متجراً كبيراً للبيع بالتجزئة، وفيه معظم شركات قطاع الملابس والتصميم، وهناك متنزه تاريخي مبني حديثاً ومعلم شهير جداً من تصميم المعمارية زها حديد يُعرف باسم دونع دايمون ديزاين بلازا، وهو عبارة عن مركز ثقافي هائل جداً.

هناك أيضاً مطار إنتشون الدولي، والذي صُنف كواحدٍ من أفضل مطارات العالم، وهو أكبر بكثير من مركز للتنقل. يحوي المطار الكثير من المنشآت والمرافق، ويعتمد على التكنولوجيا بشكل فريد، فهناك روبوتات تساعد المسافر على التنقل ضمن هذا المجمع الضخم، وألواح فولتوضوئية على السقوف تساهم في الحدّ من تكاليف التهوية والتدفئة، كما أن عمليتا استلام الحقائب ومعاملات الهجرة تتم يشكل آلي، ما يجعل تجربة السفر عبر هذا المطار ممتعة جداً. بالمناسبة، يحوي المطار مقهى يُدعى Beat تُقدم فيه الروبوتات القهوة للزبائن، والطلبات تجري عبر تطبيق الشركة.

على عكس المتاحف التقليدية، التي ترسم لك صورة عن الماضي، يتيح متحف Samsung D’light لزواره صورة أوضح عن الدور الذي ستلعبه التكنولوجيا مستقبلاً في حياة البشر، سواء في المتسقبل القريب أو البعيد. يظهر لنا معرض سامسونغ كيف ستغيّر الأجهزة والأدوات والحلول التكنولوجية طريقة عيشنا عبر سلسلة من النشاطات الإحساسية، فهناك مثلاً منطقة "الإحساس"، التي تسمح للزوار استعمال الإيحاءات للتفاعل مع مرايا العرض المزودة بأحدث التقنيات. هناك أيضاً معرض "منزل المتسقبل"، والذي يستخدم تقنية الواقع المعزز ليوضح كيف يعمل "إنترنت الأشياء" وكيف سيجعل حياتنا أكثر سهولة واتصالاً (إنترنت الأشياء هو الآلية التي تتيح للأجهزة التفاعل والتواصل مع بعضها عندما تكون متصلة مع بعضها، بالتالي تستيطع التحكم بأجهزة في منزلك حتى لو لم تكن موجوداً في المنزل مثلاً).

قد تعتقدون أن ما يميز هذه المدينة هي ناطحات السحاب وأنظمة النقل المتطورة أو التخطيط العمراني الحضري المنظم، لكن في الحقيقة، إن نشاط المدينة الذي لا يتوقف أبداً هو أكثر ما يميزها، فتلك مدينة نابضة بالحياة، صباحاً ومساءً، من متاجر التسوق في دونغ دايمون إلى منتجعات "دجيمجيبيانغ" التي تمتد لعدة طوابق وتتألف من مسابح وحمامات الساونا التي يملأها الناس، ناهيك عن أكشاك ومحال بيع الدجاج المقلي التي لا تغلق حتى الساعة الخامسة صباحاً، هناك أيضاً مقهى خاص بتقنية الواقع الافتراضي، يُدعي VR Plus، وهو يعرض أحدث وأروع تقنيات الترفيه للزوار، ويقدم له تجربة الواقع الافتراضي مقابل مبلغ مالي بسيط. بالنسبة لأي شخص في العالم، فإن سيول مدينة لا تنام.

حسبما يقول سكان سيول، فإن هذه ثقافة المدينة جاءت نتيجة عدة أسباب، فالناس مثلاً يعملون لساعات طويلة، لذا ينتظرون انتهاء العمل بفارغ الصبر كي يعيشوا حياتهم ويشربوا الكحول ويروحوا عن أنفسهم. هناك أسباب أخرى، فالشقق السكنية غالباً ما تكون صغيرة جداً ما يُجبر السكان على الخروج من شققهم وقضاء الليلة في الخارج. يمكن القول أيضاً أن سكان كوريا الجنوبية أُناس يحبون التواصل، ويحبون أيضاً امتلاك مجموعات كبيرة من الأصدقاء. بالطبع، هذه أجوبة السكان، لكن في الحقيقة، قد يكون السبب الرئيس هو تخطيط هذه المدينة والمنشآت المسلية والأحداث الثقافية الدائمة فيها.